الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واللمز: الطعن والضرب باللسان. وقرئ: {ولا تلمزوا} بالضم. والمعنى: وخصوا أيها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاجر بما فيه كى يحذره الناس» وعن الحسن رضى اللّه عنه في ذكر الحجاج: أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل اللّه ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول: يا أبا سعيد يا أبا سعيد، وقال لما مات: اللهم أنت أمته فاقطع سنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة، لا من اللّه يتقى ولا من الناس يستحى: فوقه اللّه وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها الرجل، هيهات دون ذلك السيف والسوط. وقيل: معناه لا يعب بعضكم بعضا، لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه. وقيل: معناه لا تفعلوا ما تلمزون به، لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة. والتنابز بالألقاب: التداعي بها: تفاعل من نبزه، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ويقال: النبز والنزب: لقب السوء والتلقيب المنهي عنه، وهو ما يتداخل المدعوّ به كراهة لكونه تقصيرا به وذمّا له وشينا، فأما ما يحبه مما يزينه وينوّه به فلا بأس به. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه» ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن.قال عمر رضى اللّه عنه: أشيعوا الكي فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصدّيق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد اللّه، وخالد بسيف اللّه. وقلّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجرى في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. روى عن الضحاك أن قوما من بنى تميم استهزؤا ببلال وخباب وعمار وصهيب وأبى ذرّ وسالم مولى حذيفة، فنزلت. وعن عائشة رضى اللّه عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة. وعن ابن عباس أن أمّ سلمة ربطت حقويها بسبيبة، وسدلت طرفها خلفها وكانت تجرّه، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجرّ خلفها كأنه لسان كلب. وعن أنس: عيرت نساء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة بالقصر.وعن عكرمة عن ابن عباس أن صفية بنت حيّى أتت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت:إن النساء يعيرننى ويقلن يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «هلا قلت إن أبى هرون وإن عمى موسى وإن زوجي محمد» وروى أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليسمع، فأتى يوما وهو يقول: تفسحوا لي، حتى انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم، فقال لرجل: تنح، فلم يفعل، فقال: من هذا؟ فقال الرجل. أنا فلان، فقال: بل أنت ابن فلانة، يريد: أمّا كان يعير بها في الجاهلية، فخجل الرجل فنزلت، فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا. الِاسْمُ هاهنا بمعنى الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته. وحقيقته: ما سما من ذكره وارتفع بين الناس.ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر أن يذكروا بالفسق. وفي قوله: {بَعْدَ الْإِيمانِ} ثلاثة أوجه: أحدها استقباح الجمع بين الايمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة. والثاني: أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهودى يا فاسق، فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه، والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهى عن التنابز. والثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة.
والهمزة فيه عن الواو، كأنه يثم الأعمال: أي يكسرها بإحباطه. وقرئ: {ولا تحسسوا} بالحاء والمعنيان متقاربان. يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه: تفعل من الجس، كما أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس، لما في اللمس من الطلب. وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ} والتحسس: التعرّف من الحس، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان: الحواس بالحاء والجيم، والمراد النهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه.وعن مجاهد: خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره اللّه.وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهنّ. قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين: فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع اللّه عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته».وعن زيد بن وهب: قلنا لا بن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة بن أبى معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال ابن مسعود: إنا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به. غابه واغتابه: كغاله واغتاله. والغيبة من الاغتياب، كالغيلة من الاغتيال: وهي ذكر السوء في الغيبة.سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: الغيبة إدام كلاب الناس {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه. وفيه مبالغات شتى: منها الاستفهام الذي معناه التقرير.ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك. ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخا. ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتا.وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حى. وانتصب {مَيْتًا} على الحال من اللحم. ويجوز أن ينتصب عن الأخ. وقرئ: {ميتا}. ولما قرّرهم عز وجل بأنّ أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله تعالى {فَكَرِهْتُمُوهُ} معناه: فقد كرهتموه واستقرّ ذلك. وفيه معنى الشرط، أى: إن صحّ هذا فكرهتموه، وهي الفاء الفصيحة، أى: فتحققت- بوجوب الإقرار عليكم وبأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره، لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه- كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أيضا أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين. وقرئ: {فكرهتموه}. أى: جبلتم على كراهته. فإن قلت: هلا عدّى بإلى كما عدّى في قوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} وأيهما القياس؟ قلت: القياس تعدّيه بنفسه، لأنه ذو مفعول واحد قبل تثقيل حشوه، تقول: كرهت الشيء، فإذا ثقل استدعى زيادة مفعول. وأما تعدّيه بإلى، فتأوّل وإجراء لكره مجرى بغض، لأنّ بغض منقول من بغض إليه الشيء فهو بغيض إليه، كقولك: حب إليه الشيء فهو حبيب إليه. والمبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة. أو لأنه بليغ في قبول التوبة، منزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط، لسعة كرمه.والمعنى: واتقوا اللّه بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه، فإنكم إن اتقيتم تقبل اللّه توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين. وعن ابن عباس: «أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّى لهما طعامهما، فنام عن شأنه يوما، فبعثاه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبغى لهما إداما، وكان أسامة على طعام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء، فأخبرهما سلمان بذلك، فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لهما: مالى أرى خضرة اللحم في أفواهكما، فقالا: ما تناولنا لحما فقال: إنكما قد اغتبتما فنزلت».
|